قتل الأب ولده عمداً :
اختلف الفقهاء في الرجل يقتل ولده عامدا هل يقتل به أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن الأب لا يقتل بولده .
وهذا قول الحنفية وأشهب من المالكية ، والشافعية ، والمذهب عند الحنابلة .
واستدلوا بما يلي :
1- قوله تعالى : ” وقضى ربك ألا تعبثوا إلا إياه وبالوالدين احسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ” ( الإسراء : 23 ، 24 ) ، فقد أمر المولى تبارك وتعالى بالإحسان إلى الوالد ،وقتله به يضاد الإحسان إليه .
2- ما أخرجه أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي واللفظ له عن الحجاج ابن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : « لا يقاد الوالد بالولد »
وقد نوقش هذا الدليل :
بأنه ” حديث فيه اضطراب ووجه اضطرابه : أنه اختلف فيه على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ؛ فقيل : عن عمر . وقيل : عن سراقة . وقيل : بلا واسطة .
والحديث مختلف في صحته ، وقد ضعفه كثير من أهل العلم ، ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يقتل الوالد بولده ، وهو قول ابن نافع وابن الحكم وابن المنذر . ” المغني ” (8/ 277) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” والدليل الحديث المشهور: لا يقتل والد بولده ، هذا من الأثر .
أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم ، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص .
3 – قوله صلى الله عليه وسلم : « أنت ومالك لأبيك » فقد أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم- الولد إلى أبيه كإضافة ماله إليه ، وهذه شبهة يسقط بها القصاص .
4 – أن الوالد هو سبب وجود الولد ، فلا يحسن أن يكون الولد سببا في إعدامه وفنائه.
وقد اعترض عليه باعتراضين :
الأول : أن الأب إذا زني بابنته يرجم ، مع أنه سبب وجودها ، ولم يمنع ذلك من إقامة الحد عليه .
الثاني : أن الولد ليس هو سبب إعدام الأب فيما إذا قتل الأب ولده ، بل لأن الأب عصى الله بقتل ولده . فسبب فناء الأب في الحقيقة هي الجريمة التي ارتكبها .
وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : وأما تعليلهم النظري ، فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل.
5- أن القصاص إنما شرع لتحقيق حكمة الحياة بالردع والزجر ، ولا يحتاج إلى ذلك في جانب الوالد ؛ لأن لديه من الحب والشفقة ما يمنعه من قتل ولده ، وهو أمر طبعي ؛ بدليل أنه لا يمكنه إزالته.
القول الثاني : يقتل الوالد بقتل ولده وهو رواية عن مالك ، وأحمد ، وبه قال الظاهرية ، وعثمان ، وابن المنذر . واستدلوا بالكتاب ، والسنة ، والقياس :
أما الكتاب :
1- قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ) ( البقرة : 178 ) ، فقد أوجب الله القصاص في القتلى ، وذلك عام ، فيبقى على عمومه
2- وقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ( المائدة : 45 ) ، فقد ساوى بين النفوس في القتل العمد ، فيثبت القصاص لكل مقتول من قاتله ، فدل ذلك على وجوب القود على الوالد بقتل ولده .
أما السنة :
1- فقوله صلى الله عليه وسلم- : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، فقد أثبت الرسول – صلى الله عليه وسلم – المساواة بين دماء المسلمين في القود ، فدل على أنه يقتص الولد من والده
أما القياس :
فإنهما شخصان متكافئان في الدين ، والحرمة ، فكان القصاص جار بينهما ؛ كالأجنبيين .
القول الثالث : إذا فعل الوالد بولده فعلا يحتمل أنه لم يرد به قتله ، وادعى إرادة الأدب ، لم يقتل به . أما إذا فعل به فعلا لا يشك في أنه أراد قتله ، أو اعترف بإرادة القتل في الفعل المحتمل ، قتل به ، وهو المشهور من مذهب مالك .
ودليله : عموم الأدلة الموجبة للقصاص بين القتلى .
وفعل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فإن رجلا من بني مدلج – يقال له قتادة – خلف ابنه بالسيف ، فأصاب ساقه ، فنزي في جرحه فمات ، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب ، فذكر ذلك له . فقال له عمر : اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير ، حتى أقدم عليك . فلما قدم إليه عمر بن الخطاب ، أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، ثم قال : أين أو المقتول ؟ قال : ها أنا ذا . قال : خذها فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال « ليست لقاتل شيء » ، فإن عمر – رضي الله عنه – أسقط القصاص من الأب ؛ لاحتمال أنه أراد بفعله غير القتل ، ليس لانه والده .
قال القرطبي: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدًا، مثل أن يضجعه ويذبحه، أو يصبره، أنه يُقتل به قولًا واحدًا، فأمّا إن رماه بالسلاح أدبًا وحنقًا لم يقتل به وتغلّظ الدية.
والإمام مالك ـ رحمه الله ـ اختار ذلك، إلا أنه قيده بما إذا كان عمدا، لا شبهة فيه إطلاقا ، بأن جاء بالولد وأضجعه وأخذ سكينا وذبحه ، فهذا أمر لا يتطرق إليه الاحتمال ، بخلاف ما إذا كان الأمر يتطرق إليه الاحتمال فإنه لا يقتص منه ، قال: لأن قتل الوالد ولده أمر بعيد ، فلا يمكن أن نقتص منه إلا إذا علمنا علم اليقين أنه أراد قتله .
وقال الشيخ ابن عثيمين في كتابة “الشرح الممتع” (14/ 43) :
والراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم ، ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده ، لا سيما إذا كان والدا بعيدا، كالجد من الأم ، أو ما أشبه ذلك ويقتله ما دام أنه لن يقتص منه .